أذكار الصباح والمساء والنوم

العزلة في زمن الفتن

العزلة في زمن الفتن

العزلة في زمن الفتن

أثنى الله تعالى على من اعتزلوا قومهم فرارا من الفتنة ، فقال سبحانه :

(وإذ اعتزلتموهم وما يعبدون من دون الله فأووا إلى الكهف ينشر لكم ربكم من رحمته)

وللسلامة من الفتنة شرعت الهجرة ، ونهي المسلم عن الاستشراف للفتن ،

وأمر الرسول (صلى الله عليه وسلم) من سمع بالدجال أن ينأى عنه .

وشرع الاعتكاف ليأخذ المؤمن حظه من العزلة فيخلو بربه ،

ولذلك كان للعبادة في أيام الفتن فضل ، فعن معقل بن يسار (رضي الله عنه) قال :

قال رسول الله (صلى الله عليه وسلم) : (العبادة في الهرج كهجرة إلي) رواه مسلم ،

والدمعة خاليا لها فضل أيضا ، قال (صلى الله عليه وسلم) في ذكر السبعة

الذين يظلهم الله في ظله : (ورجل ذكر الله خاليا ففاضت عيناه) متفق عليه .

 

ومن الأحاديث الدالة على فضل العزلة خاصة في الفتن :

1- حديث سعد (رضي الله عنه) : ( إن الله يحب العبد التقي الغني الخفي) رواه مسلم

2- حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: يوشك أن يكون خير مال المسلم غنم يتبع بها شعف الجبال ، ومواقع القطر، يفر بدينه من الفتن . وفي رواية: يأتي على الناس زمان خير مال الرجل المسلم الغنم، يتبع بها شعف الجبال ومواقع القطر، يفر بدينه من الفتن . (شَعَف الجبال) أي رؤوسها. و (مواقع القطر) أي المواضع التي يستقر فيها المطر كالأودية. قال ابن عبد البر : في ذلك حض على الانفراد عن الناس واعتزالهم والفرار عنهم ، وقد فضلها رسول الله صلى الله عليه وسلم كما ترى ، وفضلها جماعة العلماء والحكماء ، لا سيما في زمن الفتن وفساد الناس ، وقد يكون الاعتزال عن الناس مرة في الجبال والشعاب ، ومرة في السواحل والرباط ، ومرة في البيوت ، وقد جاء في غير هذا الحديث (إذا كانت الفتنة فاخف مكانك وكف لسانك) ولم يخص موضعا من موضع  . وحديث أبي سعيد رواه البخاري في مواضع من صحيحه، وبوب عليه باب: من الدين الفرار من الفتن .. باب: العزلة راحة من خلاط السوء .. باب: التعرب في الفتنة. ورواه أبو داود وبوب عليه: باب: ما يرخص فيه من البداوة في الفتنة. ورواه ابن ماجه وبوب عليه: باب: العزلة ، وهذا التبويب بيان منهم رحمهم الله لفقه الحديث، فهذه الخيرية للعزلة إنما تتأكد عند حصول الفتن التي يخشى منها على الدين. قال ابن حجر : وهذا صريح في أن المراد بخيرية العزلة أن تقع في آخر الزمان ، وقال أيضا : الخبر دال على فضيلة العزلة لمن خاف على دينه، وقد اختلف السلف في أصل العزلة، فقال الجمهور: الاختلاط أولى لما فيه من اكتساب الفوائد الدينية للقيام بشعائر الإسلام وتكثير سواد المسلمين وإيصال أنواع الخير إليهم من إعانة وإغاثة وعيادة وغير ذلك ،

وقال قوم: العزلة أولى لتحقق السلامة بشرط معرفة ما يتعين .. وقال النووي: المختار تفضيل المخالطة لمن لا يغلب على ظنه أنه يقع في معصية، فإن أشكل الأمر فالعزلة أولى ، وقال غيره: يختلف باختلاف الأشخاص فمنهم من يتحتم عليه أحد الأمرين ومنهم من يترجح، وليس الكلام فيه، بل إذا تساويا فيختلف باختلاف الأحوال، فإن تعارضا اختلف باختلاف الأوقات، فمن يتحتم عليه المخالطة من كانت له قدرة على إزالة المنكر فيجب عليه إما عينا وإما كفاية بحسب الحال والإمكان، وممن يترجح من يغلب على ظنه أنه يسلم في نفسه إذا قام في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وممن يستوي من يأمن على نفسه ولكنه يتحقق أنه لا يطاع، وهذا حيث لا يكون هناك فتنة عامة، فإن وقعت الفتنة ترجحت العزلة لما ينشأ فيها غالبا من الوقوع في المحذور، وقد تقع العقوبة بأصحاب الفتنة فتعم من ليس من أهلها؛ كما قال تعالى: (واتقوا فتنة لا تصيبن الذين ظلموا منكم خاصة) انتهـى.

ومما يرجح الخلطة حديث (المؤمن الذي يخالط الناس ويصبر على أذاهم ، خير من المؤمن الذي لا يخالط الناس ولا يصبر على أذاهم) ولكنه محمول على التفصيل السابق ، جمعا بينه وبين الأدلة التي أثنت على العزلة .

 

3- وعن ابن عباس رضي الله عنهما : أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل: أي الناس أفضل ؟ فقال: مؤمن يجاهد في سبيل الله بنفسه وماله. قالوا: ثم من؟ قال: مؤمن في شعب من الشعاب يتقي الله ، ويدع الناس من شره متفق عليه . قال ابن حجر : (هو محمول على من لا يَقدر على الجهاد ، فيستحب في حقه العزلة ليسلم ويسْلم غيره منه ، والذي يظهر انه محمول على ما بعد عصر النبي صلى الله عليه و سلم) . وقال أيضا : “ولفظه هنا صريح في أن المراد بخيرية العزلة أن تقع في آخر الزمان وأما زمنه صلى الله عليه و سلم فكان الجهاد فيه مطلوبا ، حتى كان يجب على الأعيان إذا خرج الرسول صلى الله عليه و سلم غازيا أن يخرج معه إلا من كان معذورا ، وأما من بعده فيختلف ذلك باختلاف الأحوال.”

يقول ابن رجب رحمه الله: (وجدتُ أكثرهم لا يقوى على مخالطة الخلق فهو يفر إلى الخلوة ليستأنس بحبيبه ، ولهذا كان أكثرهم يطيل الوحدة . وقيل لبعضهم : ألا تستوحش ؟ قال : كيف أستوحش وهو يقول : أنا جليس من ذكرني ؟ . وقال آخر : وهل يستوحش مع الله أحد ؟ . وكان  يحيى بن معاذ كثير العزلة والانفراد ، فعاتبه أخوه فقال له : (إن كنت من الناس فلابد لك من الناس !) فقال يحيى : (إن كنت من الناس فلابد لك من الله)

وقال محمد بن شهاب الزهري : (إذا طال المجلس كان للشيطان فيه نصيب) ، وعد ابن القيم (رحمه الله تعالى) من مفسدات القلب : كثرة الخلطة ، وقال : إن امتلاء القلب من دخان أنفاس بني آدم يجعله يسود ، ويوجب له تشتتا وتفرقا وهما وغما وضعفا وإضاعة مصالحه ، والاشتغال عنها بهم وبأمورهم ، وتقسم فكره في أودية مطالبهم وإراداتهم ، فماذا يبقى منه لله والدار الآخرة ؟ وهذه الخلطة التي تكون على نوع مودة في الدنيا، قد تنقلب عداوة ، قال تعالى: { الأخلاء يومئذ بعضهم لبعض عدو إلا المتقين } وقال خليله إبراهيم لقومه: { إنما اتخذتم من دون الله أوثانا مودة بينكم في الحياة الدنيا ثم يوم القيامة يكفر بعضكم ببعض ويلعن بعضكم بعضا ومأواكم النار وما لكم من ناصرين} والضابط النافع في أمر الخلطة : أن يخالط الناس في الخير كالجمعة والجماعة، والأعياد والحج، وتعلم العلم، والجهاد، والنصيحة، ويعتزلهم في الشر وفضول المباحات ، وإن دعت الحاجة إلى خلطتهم في فضول المباحات فليجتهد أن يقلب ذلك المجلس طاعة لله إن أمكنه .

وقال الكرماني: المختار في عصرنا تفضيل الانعزال لندرة خلو المحافل عن المعاصي ، واحتجوا بقوله تعالى حكاية عن إبراهيم عليه الصلاة والسلام (وأعتزلكم وما تدعون من دون الله وأدعو ربي عسى ألا أكون بدعاء ربي شقيا * فلما اعتزلهم وما يعبدون من دون الله وهبنا له إسحاق ويعقوب وكلا جعلنا نبيا) . وبحديث عقبة بن عامر الجهني رضي الله عنه قال : قلت يا رسول الله ما النجاة ؟ قال : (أمسك عليك لسانك ، وليسعك بيتك ، وابك على خطيئتك) رواه الترمذي وحسنه ، وصححه الألباني .

وعن عبد الله بن عمرو بن العاص قال: (بينما نحن حول رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ ذكر الفتنة فقال: إذا رأيت الناس قد مرجت عهودهم، وخفت أماناتهم، وكانوا هكذا -وشبك بين أصابعه- قال: فقمت إليه فقلت: كيف أفعل عند ذلك جعلني الله فداك؟ قال: الزم بيتك، واملك عليك لسانك، وخذ بما تعرف، ودع ما تنكر، وعليك بأمر خاصة نفسك، ودع عنك أمر العامة) رواه أبو داود .

وقال ابن عبد البر : وقد جعلت طائفة من العلماء العزلة اعتزال الشر وأهله بقلبك وعملك وإن كنت بين ظهرانيهم ، ذكر ابن المبارك قال : حدثنا وهيب بن الورد قال : جاء رجل إلى وهب بن منبه فقال : إن الناس قد وقعوا فيما فيه وقعوا ، وقد حدثت نفسي أن لا أخالطهم فقال : لا تفعل إنه لا بد لك من الناس ولا بد لهم منك ، ولك إليهم حوائج ولهم إليك حوائج ، ولكن كن فيهم أصم سميعا أعمى بصيرا سكوتا نطوقا ، وقال ابن المبارك في تفسير العزلة : أن تكون مع القوم ، فإذا خاضوا في ذكر الله فخض معهم ، وإن خاضوا في غير ذلك فاسكت .

إترك تعليق

البريد الالكتروني الخاص بك لن يتم نشرة . حقل مطلوب *

*